روائع مختارة | روضة الدعاة | زاد الدعاة | المسئولية الأخلاقية للعالم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > روضة الدعاة > زاد الدعاة > المسئولية الأخلاقية للعالم


  المسئولية الأخلاقية للعالم
     عدد مرات المشاهدة: 2961        عدد مرات الإرسال: 0

لا يكف هذا السؤال عن طرح نفسه كلما تابعنا إحدى التطبيقات العلمية المثيرة للجدل: هل يُدرك العالم الأبعاد الكارثية لبعض أطروحاته العلمية وتجاربه المخبرية؟

إن ما تفاجئنا به البحوث والتجارب في ميادين البيولوجيا والهندسة الوراثية. وما تكشف عنه البدائل الصناعية والتكنولوجية من تهديد صريح للبيئة، بل للوجود البشري برمته. إضافة لما ترتب عن تطور تكنولوجيا المعلومات والاتصال من سلوكيات وممارسات منافية لمنظومة القيم والأخلاق السائدة، أضحى اليوم مبعثا للقلق، ومدعاة للمطالبة بضرورة لجم الممارسة العلمية بزمام أخلاقي.

ورغم أن وتيرة المناداة في الغرب بتخليق العلم ووصل البحث العلمي ونواتجه بقيم المجتمع والضمير الأخلاقي قد ارتفعت منذ سبعينات القرن الماضي، إلا أن التوترات والأزمات السياسية والعسكرية لا زالت تكشف عن الوجه القبيح للعلم، وتؤكد بأن انحرافه عن مقاصده الإنسانية لم يكن خطأ أفراد بل خطأ حضارة بأكملها. فمنذ أن انتقلت الريادة العلمية للغرب بعد سقوط بغداد والأندلس، حرص العقل الغربي على أن ينزع العطاء العلمي الإسلامي من سياقه الإيماني ليصله بالموروث الفلسفي اليوناني. فظهر مفكرون كـ (مالبرانش) و(سبينوزا) و(ديكارت) وغيرهم يدعون إلى الإيمان بالقيمة الذاتية للعلم، وينظرون إليه باعتباره موضوعيا لا يشغله سوى دراسة الوقائع وفق مناهج موضوعية لتثمر معارف وحقائق.

كان السبيل ممهدا إذن لتحرير العلم من المعايير الأخلاقية، واعتباره كيانا مفارقا همه الأوحد هو كشف خبايا المعرفة والمضي فيها إلى أبعد حد، دون الالتفات لما تفضي إليه تطبيقاتها من انتهاك لقدسية الحياة، وتدمير فرص العيش الآمن والكريم.

كتب كارل بوبر منبها لخطر الوثوق الزائد في العلم (ما دام العالم الطبيعي قد بات مشتبكا بتطبيقات العلم اشتباكا لا فكاك منه، وجب عليه أيضا أن يجعل إحدى مسئولياته الخاصة أن يتنبأ قدر المستطاع بالنواتج غير المقصودة لعمله وأن يلفت الانتباه إلى النواتج التي ينبغي أن نناضل لتجنبها، ومنذ أولى بشائرها) (1).

لكن الفواجع الإنسانية توالت، والانحلال الأخلاقي أضحى سمة مميزة للمجتمعات الغربية دون أن تفقد الممارسة العلمية غطرستها وادعاءها أنها جوهر الفعالية الحضارية هناك!

وفي المقابل لا يقف الإسلام عند حدود وضع إطار تصوري لأخلاقية العلم ومسئولية العالم بل يقرنه بالتوحيد ويعتبره معيار الوجود الإنساني. لذا (ينبغي أن تكون أسسه متسمة بالخير، وأن تكون غاياته منغمسة في الخير. إن العلم في الإسلام يتسم بالأخلاقية في الوسائل والغايات، ويصبح بالتالي وسيلة مدهشة لخدمة غايات إنسانية نافعة بناءة. فشرط العلم الإسلامي أن يكون نافعا للإنسان في ذاته وفي مجتمعه، في الدين والدنيا والآخرة) (2).

هذا التصور المتكامل الذي لا يعد العلم قيمة بذاته بل بفائدته أهل علماء المسلمين للتحلي بالحذر العلمي والأمانة، واستشعار دور الجهد العلمي النبيل في تحقيق القرب من الله. وهو ما يؤكده المفكر الفرنسي رجاء غارودي في رصده لأثر المزج بين الإيمان والمنهج التجريبي على العطاء العلمي الإسلامي بقوله: (عندما كان علماء الإسلام في أوجه يدرسون علم طبقات الأرض وعلوم النبات والحيوان كانوا ينطلقون في ذلك من شعورهم دائما بأنهم خلفاء الله على الأرض كما يقول القرآن، مسئولون عن التوازن في الطبيعة. فعلم البيئة بالنسبة لعالم مسلم هو مقتضى لاهوتي. وإن دراسة الحيوانات نفسها في العلوم الطبيعية تقتضي بمعنى وحدة الطبيعة الاهتمام بالتعلم من الحيوانات بعض أسرار حكمة الله في خلقه.. ) (3).

وقس على ذلك سائر العلوم الأخرى التي نبغ فيها المسلمون حيث كان انقياد الممارسة العلمية للتوجيه القرآني والنبوي كفيلا بتحصينها من مغبة انتهاك المبادئ الأخلاقية.

إننا حين نستعرض الجهود التي بذلها بعض عقلاء الغرب في سبيل تخليق العلم، وربطه مجددا بالنسق القيمي للمجتمع، نستشف قصور العقل الإنساني وحده عن تحقيق مبتغى السعادة والنهضة الحقة دون الاسترشاد بالتوجيه الرباني الهادي للصواب. فكارل بوبر يقترح وضع صياغة حديثة لقسم أبقراط تُرسخ لدى طلاب العلم الوعي بالمسئولية الأخلاقية وضرورة الالتزام الطاغي إزاء الإنسانية جمعاء (4).

في حين يُراهن ديفيد رزنيك في كتابه أخلاقيات العلم على تفعيل دور الفلسفة لوضع إطار تصوري يحدد مبادئ عامة لأخلاقيات العلم وكيفية تطبيقها، كما يقترح اثني عشر مبدأ لإرشاد السلوك العلمي وإخضاعه للمقتضى القيمي. أما منظمة اليونسكو فحرصت على إنشاء مرصد عالمي للأخلاقيات، ومنتدى متعدد التخصصات للتفكير في أخلاقيات العلم والتكنولوجيا (5).

لكن هذه الجهود لم تحل دون تخلي العلم عن نزعته التدميرية، واندفاعه المقيت لدعم كل أشكال الهيمنة، والمساس الحاد بحرية الإنسان وكرامته. فلا زالت المقولة الخطيرة التي أطلقها فرنسيس بيكون: (المعرفة قوة) تهيئ الذرائع الملائمة للمضي في إنهاك الطبيعة، وتهديد الوجود البشري!

إن تفعيل المسئولية الأخلاقية للعالم لا يمكن أن يتحقق ما دام العقل الغربي يستمد موقفه تجاه الكون من تصورات فلسفية خاطئة تزعم الحق الإنساني المطلق في تدجينه، والسيطرة على موارده دون الالتفات لما يترتب عن ذلك من خراب. وبالتالي فعناية الجامعات ومؤسسات البحث العلمي في العالم الإسلامي بالدراسة الأخلاقية للعلم تقتضي استيعاب مفهومه القرآني، ومواجهة القضايا العلمية الشائكة ضمن رؤية إسلامية تُلزم الفرد بنهوض أمثل بواجب الاستخلاف.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) كارل بوبر: أسطورة الإطار. سلسلة عالم المعرفة. عدد 292 أبريل/ مايو 2003. ص 158.

(2) د. صلاح الدين بسيوني رسلان: العلم في منظوره الإسلامي. منشورات دار الثقافة. القاهرة 1989. ص 29.

(3) رجاء غارودي: الإسلام في الغرب. ترجمة: د. ذوقان قرقوط. دار دمشق. ط. 1 1995. ص 224.

(4) كارل بوبر. مرجع سابق. ص 152.

(5) راجع- إن شئت- التفاصيل الخاصة ببرنامج أخلاقيات العلم والتكنولوجيا ضمن موقع المنظمة.

الكاتب: حميد بن خبيش.

المصدر: موقع المسلم.